الاثنين، 25 فبراير 2013

الحطيئة

الحطيئة

   أبو مُلَيْكة جرول بن أوس بن مالك العبسي، شاعر مخضرم أدرك الجاهلية وأسلم في زمن أبي بكر. ولد في بني عبس دعِيًّا لا يُعرفُ له نسب فشبّ محروما مظلوما، لا يجد مدداً من أهله ولا سنداً من قومه فاضطر إلى قرض الشعر يجلب به القوت، ويدفع به العدوان، وينتقم به لنفسه من بيئةٍ ظلمته، ولعل هذا هو السبب في أنه اشتد في هجاء الناس، ولم يكن يسلم أحد من لسانه فقد هجا أمّه وأباه حتى إنّه هجا نفسه!.

   الحطيئة رائد الشعر القصصي كما هو واضح في قصيدته (قصة كرم) يستهل القصيدة بإضاءة لبيئة القصة، وشخوصها ثمّ تبدأ حبكة القصة وتأزم الحدث: ويأخذ التأزم في التطور وتشتد عقدة القصة حتى تصل منتهى الشد: ثم تأخذ الأزمة في الإنفراج، ويبدأ حل العقدة: وانحلت العقدة.. ثم تليها الإضاءة الأخيرة أو ما يعرف بالخاتمة.

وَطاوي ثَلاثٍ عاصِبِ البَطنِ مُرمِ
ٍببيداءَ لَم يَعرِف بِها ساكِنٌ رَسما
أَخي جَفوَةٍ فيهِ مِنَ الإِنسِ وَحشَة                (يبين الشاعر حال العربي
ٌيَرى البُؤسَ فيها مِن شَراسَتِهِ نُعمى                الفقير الذي لا يجد قوت
وَأَفرَدَ في شِعبٍ عَجُوزاً إِزاءها                           يومه)
ثَلاثَةُ أَشباحٍ تَخالُهُمُ بَهما
حفـاة عراة ما اغتذوا خبـز ملة
ولا عرفوا للبر مذ خلقـوا طعما

رَأى شَبَحاً وَسطَ الظَلامِ فَراعَه                     (هنا تبدأ العقدة ولاحظ
ُفَلَمّا بَدا ضَيفاً تَشمَّرَ وَاِهتَمّا                          في آخر بيتين تشتّد
فقال هيا رباه ضيف ولا قــرى                         العقدة)
بحقك لا تحرمه تالليلة اللحمـا
وَقالَ اِبنُهُ لَمّا رَآهُ بِحَيرَة
ٍأَيا أَبَتِ اِذبَحني وَيَسِّر لَهُ طُعما
وَلا تَعتَذِر بِالعُدمِ عَلَّ الَّذي طَرا
يَظُنُّ لَنا مالاً فَيوسِعُنا ذَمّا
فَرَوّى قَليلاً ثُمَّ أَجحَمَ بُرهَة
ًوَإِن هُوَ لَم يَذبَح فَتاهُ فَقَد هَمّا

فَبَينا هُما عَنَّت عَلى البُعدِ عانَةٌ
قَدِ اِنتَظَمَت مِن خَلفِ مِسحَلِها نَظما                  (أخذت الأزمة     
عِطاشاً تُريدُ الماءَ فَاِنسابَ نَحوَها                      بالإنفراج)
عَلى أَنَّهُ مِنها إِلى دَمِها أَظما
فَأَمهَلَها حَتّى تَرَوَّت عِطاشُها

فَأَرسَلَ فيها مِن كِنانَتِهِ سَهما
فَخَرَّت نَحوصٌ ذاتُ جَحشٍ سَمينَةٌ
قَدِ اِكتَنَزَت لَحماً وَقَد طُبِّقَت شَحما                   (وانحلت العقدة)
فَيا بِشرَهُ إِذ جَرَّها نَحوَ قَومِه
ِوَيا بِشرَهُم لَمّا رَأَوا كَلمَها يَدمى

فَباتَوا كِراماً قَد قَضوا حَقَّ ضَيفِهِم
فَلَم يَغرِموا غُرماً وَقَد غَنِموا غُنما                     (الخاتمة)
وَباتَ أَبوهُم مِن بَشاشَتِهِ أَباً
لِضَيفِهِمُ وَالأُمُّ مِن بِشرِها أُمّا.

   ما أتعجب منه أن هذا الشعر الجميل، الذي قال عنه النقاد: أفضل ما قيل في الكرم؛ يخرج من الحطيئة!

الذي قال في أمه:
تـنـحـي فـاقـعـدي مــني بـعيداً .. أراح الله مــنـك الـعـالـمينا
ألـم أوضـح لـك البغضاءَ مني .. ولـكـن لا أخـالُـكِ تـعـقلينا
أغــربـالاً إذا اســتُـدعـت سـراً .. وكـانـوناً عـلـى الـمتحدثينا
جـزاكِ الله شــراً مــن عـجوز .. ولـقَّـاك الـعقوق مـن الـبنينا
حــيـاتـكِ مـاعلمت حـياةُ سـوءٍ .. ومـوتُـكِ قــد يـسرُّالصالحينا.

وقال في أباه:
لـــحــاك الله ثـــم لــحــاك حــقاً .. أبــاً ولــحــاكـمـن عــمٍّ وخــالِ
فـنعم الـشيخُ أنت لدى المخازي .. وبـئـس الـشيخُ أنت لدى المعالي
جـــمـعت الـلـُّؤم لا حـياك ربـي .. وأبـــواب الــســفـاهـةِ والـظلال

وقال يهجو نفسه:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلماً ... بهجو فما أدري لمن أنا قائله.
فرأى وجهه في الماء فقال:
أرى اليوم لي وجهاً فلله خلقه ... فقبح من وجه وقبح حامله !!

   وعندما مات أوصى أن يعلق هذا على كفنه:
لا أحدٌ ألأم من حطيئة هجا البنين وهجا المريئة !!

   ولولا سوء سيرة الحطيئة لكان شاعراً مجيداً فسبحان الله ..!
يقول أحمد شوقي رحمه الله:
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه *** فقوم النفس بالأخلاق تستقم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق