تمهيدك
بلى أنا مشتاق وعندي لوعة
ولكن مثلي لا يذاع له سر
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى
وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر
تكاد تضيء النار بين جوانحي
إذا هي أذكتها الصبابة والفكر.
إن الله قد رزقنا بنسمات جميلة
لطيفة، تأتينا ونحن غارقين في الحديث بين الإخوان.
فتجد الشخص بغيب لحظات، ويغرق في
عالم آخر، وإذا سألته: أين كنت؟
يقول: تذكرت فلان!!
كيف؟ ومن الذي ذكره به؟
إنها النسمات الرقيقة التي تأتينا لتذكرنا بأحبابنا الذين فقدانهم......
رسالة من عالم البرزخ
نهضت فزعاً على صوت تقارع
الصحون!! ذهبت إلى المطبخ لأرى من الذي يعبث بالصحون؟
لم أصدق عيني ... نور تتحرك في
أرجاء المطبخ، تقلب الصحون، وتسخن الماء، والابتسامة لا تفارق ثغرها، لمحتني لكنها
اكتفت بابتسامتها فقط.
لم أتحدث بل بقيت واقفًا شاردًا،
هل ما حدث لنور كان حلمًا _الموت بالمستشفى_، أم هي ميته _نور_ وأنا أحلم بها؟
مهما كان أتمنى أن يطول الأمر...
كنت أراقب حركاتها شعرها الجميل
الذي يتمايل مع حركتها، عيناها التي ملئة المطبخ نورًا وضياء.
قالت: اجلس حتى آتيك بالشاي....
نفذت ما قالت دون أن أفتح فمي...
جلست أقلب قنوات التلفاز، ولم أعلم أي قناة سأختار، إنما كانت حركة تلقائة، ففكري
غارق في نور، وكيف خرجت لي بعد هذا الغياب الطويل...
كنت مبتسمًا، انتظر قدومها، جاءت
أمامي بقوامها الرشيق، وعطرها الفواح، وانعكاس الضوء على شعرها، كان كخيوط الشمس،
يتناثر مع خطواتها، جاءت وثغرها كالؤلؤ .... وضعت الشاي أمامي، وجلست بقربي _كما
كنت تجلس سابقًا_ ثم قالت:
نور: وين نور الصغيرة؟
ظللت ساكتًا شاردًا، لا أعرف بماذا أجبيها.....
نور: اشرب الشاي قبل أن يبرد.
أخذت رشفة سريعة وعيني لم تفارقها، وكان يدور في عقلي _ولم أتجرأ للبوح به_
قول الشاعر:
أراك هجرتني هجرًا طويلًا
وما عودتني من قبل ذاكا
قامت بقدميها الملستين، وساقيها الناعمتين، تتبختر برشاقة بين أرجاء الشقة،
تتفحص وتدقق النظر، وأنا خلفها، أراقب عيناها، وهي تقلب الأشياء وتتفحصها، حتى
جلست من التعب، فجلست بقربها ....
أشارت إلي أن أضع رأسي على فخذها؛
لأتوسده وأرتاح ...
وضعت رأسي بكل خفة؛ حتى لا أؤذي
فخذها الناعم الرقيق، وقد شعرت بطمئنينة، وسكينة، وهدوء، وراحة، افتقدتها منذ زمن.
كنت في صراع مع عيني التي يغالبها
النعاس، وأنا أحاول جاهدًا، المكوث أطول مدة بقرب نور.
وضعت كفها المصاغة من الفضة
البيضاء، وأنا أراقب وأقول في نفسي:جيدك جيد الظبي، وأنفك صنع من در مذاب مركب،
وحاجباك كالنون المصفوفة، وخدك كالورد في الروض، وطرفك السحري، ووجهك كالبدر
المنير... سبحان من ركب وأبدع.
كانت تمسح على خدي بأناملها الرقيقة
الناعمة على خدي؛ فغلبني النعاس في النهاية.
غرقت في نوم، لا أعرف دقائقه، أو
ساعاته، كانت نومة جميلة هادئة سعيدة.....
فتحت عيني.... أين نور؟ لقد
اختفت! غضبت غضبًا شديدًا على نفسي _لأني نمت_ وعلى من سلب نور مني _المستشفى_ كدت
أحطم الأشياء من حولي.... لكن استوقفني رسالة وجدتها أمامي!
فتحت الرسالة، كان الخط خط نور!
ووجدت فيها:
حبيبي... يعز علي أن أراك حزينًا
.... لماذا لم تغير شيئًا بالشقة؟ لماذا عطوري في مكانها؟ لماذا أوراقي وقصاصاتي
في مكانها؟ لماذا لم تغير مكان مصحفي؟ لماذا شموعي في مكانها؟ لماذا؟ لماذا؟....
لقد مرت سنة وأنت لم تنساني....
اما آن لك أن تسير في حياتك؟
لست زوجي الذي أعرفه! لست زوجي الذي يوجهني ويعلمني....
وجهك شاحب! ربما ذهابي أرقك؟ أو
ربما العذاب الذي لاقيته بالمستشفى أغضبك؟ أو ربما ابتعادي عن ابنتنا وعدم رأيتي
لها أحزنك؟ او ربما تذكرت صراخي وآهاتي وبكائي وضرب رأسي _من شدة الألم_ فأسخطك؟
ألم تتذكر قول النبي _صلى الله
عليه وسلم_: " ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه، حتى الشوكة
يشاكها "
ألم تتذكر أن الشهيد يشفع لأهله؟
ألم تتذكر أن المظلوم حقه لا يضيع _ عند الله_؟ ألم تتذكر أن الله قد رزقك ابنة
جميلة مكان زوجتك؟ ألم تتذكر أن ليس بينك وبين الله حجاب؟ ألم يسعدك قرب الشديد من
الله؟
لا والله لم تنسى، ولكن الشيطان
تمكن منك؛ لغفلة أصابتك....
حبيبي لا ترهق نفسك بالقضايا،
والمحاكم، وأعلم أن الله لا يضيع حق عبده...
آه... ما أجمل آخر اللحظات _عندما
ماتت_ كان خدك على فخذي، نائم كالطفل، كان وجهك بريئًا جميلًا، أيقظك جهاز القلب
وهو ينادي أن قد آن أجلي.....
لا أريد _يا قلبي_ أن يلتهم الحزن
شبابك، أريد منك يا قلبي أن تذهب إلى نور _ابنتي_ وتقبلها قلبلتين؛ واحدة عني وثانية
عنك أنت...
لقد رحت عنك يا حبيبي ..... ولم
يبقى إلا ذكراي...... فلا تنساني بصالح دعائك...... إلى اللقاء
زوجتك: نور
بللت دموعي الرسالة، ووقفت
عاجزًا، لا أعرف ما أصنع، أو كيف أخاطبها وأرد عليها.
فلم أجد إلا أن؛ أقلب الرسالة
أكتب في ظهرها:
آه ثم آه ثم آه......
يراد القلب نسيانكم
وتأتي الطباع على الناقل
أرأيت شحوبي؟ أرأيت حزني؟ أرأيت بكائي؟ أرأيت خوفي؟ أريأيت ضياعي؟
أصبحت مريضًا من غير مرض، خوار
مسلوب القوة، انزعج قلبي إلى الموت وما به جرأة، وإلى الحياة وما به قوة؛ وأصبحت
في معاملة الناس كالدينار الزائف لا يقبله أحد، وثابر علي داءُ الحزن، فأضناني،
وترك روحي تتقعقع في جلدِها، فهي تهم في لحظة أن تثبَ وتندلق.
كان كل منا يحيا للآخر، فهذا ما
كان يجعل كلاً منا لا يفرغ إلا امتلأ، ولما ذهبتي ذهبت الحقيقة التي كنت أقاتل
الأيام عنها، وكنت أنت _وحدك_ تريني الحياة بمعناها، إن جاءتني الحياة فارغة من
المعنى، وكنت أفهم الحياة على أنها مجاهدة البقاء؛ أما الآن فالحياة عندي قتل
الحياة..!!
مالي أكتم حبًا قد برى جسدي....
لا تطلبي ما ليس ملكي ....
دائمًا ما أتجول في أرجاء الشقة... هنا ضحكت... هنا جلست... هنا ابتسمت...
هنا غضبت... هنا شربت... هنا أكلت...
هل تريدين لكل هذا أن يزول !!
كلما سمعت اسمك خفق قلبي، وتذكرت
ضحكاتك، ونسماتك، وأنفاسك، وجمالك...
نعم سرى طيف من أهوى فأرقني
والحب يعترض اللذات بالألم
ما أصعب عالم الرجال الذي يأمرنا
أن نكتم مشاعرنا، ولا نظهرها للناس.
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى
وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر
نعم مرت سنة، وقسمات وجهك
المضيء لم تفارق عيني... همساتك وضحكاتك في أذني... ثغرك الجميل أمامي.... آه ما
أجملك....
مهما أحببت، تبقى زاية في قلبي؛
لن يصل إليها أحد غيرك...
أسأل الله أن يجمعنا مع ابنتنا في
مكان غير هذه الدنيا...
يا رب فاجمعنا معًا ونبينا
في جنة تثني عيون الحسد
في جنة الفردوس واكتبها لنا
يا ذا الجلال وذا العلا والسؤدد
اللهم آمين...
زوجك المحب: أبا نور!!
ليس هذا اسمي الحقيقي!! هذا الاسم الذي يدعوني به الناس الآن.
سيبقى اسمي السر الذي بيننا حتى
ألقاك لتناديني به....
يارب كما أخذتها من عيني ...
فخذها من قلبي وروحي وعقلي.... أدميت قلبي برحيلك....
نهضت وذهبت إلى وسادتتها، ووضعت
الرسالة تحتها.....
ملاحظة: في الرابط صورة آخر رسالة كتبتها نور قبل وفاتها
http://instagram.com/p/Z0yl9cCeyc/#