الأربعاء، 2 أكتوبر 2013

القين وابن المراغة


القَيْن وابن المَراغة

 

   لم يجد العرب الصعوبة في ارتجال بيت من الشعر بل قصيدة كاملة، ويرجع هذا الأمر إلى ذكاء العرب وسرعة بديهة الشاعر، في تأليف أبيات تناسب الموقف، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًا...

   وقد بلغ من ذكاء الشعراء وفطنتهم؛ تأليف أبيات قبل أن يقولها الشاعر!!

   فقد حكي أن سليمان بن عبد الملك أمر الفرزق بضرب عنق أسارى من الروم فاستعفاه فلم يفعل، وأعطاه سيف لا يقطع شيئًا فقال الفرزدق: بل أضربهم بسيف أبي رغوان مُجاشع _يعني نفسه_ فقام فضرب به عنق رومي منهم فلم يقتله السيف!

   فضحك سليمان ومن حوله فقال الفرزدق:

أيعجب الناس أن أضحكت سيدهم ... خليفة الله يستسقى به المطر
لم ينب سيفى من رعب ولا دهش ... من الأسير ولكن أُخر القدر
ولن يقدم نفسا قبل ميتتها ... جمع اليدين ولا الصمصامة الذكر

   ثم جلس وهو يقول: كأن ابن المَراغة _يعني جرير_ قد هجاني فقال:

بسيف أبي رغوان سيف مجاشع

ضربت ولم تضرب ابن ظالم
ولم يرى جرير ولم يسمع منه شيئًا، إنما أحس أن جرير سيقول هذين البيتين إذا علم بالأمر.
   ثم انصرف، وحضر جرير، وخُبر بالخبر، ولم ينشد له الشعر، فأنشأ يقول:

بِسَيْفِ أَبِي رَغْوَانَ سَيْفِ مُجَاشِعٍ

ضَرَبْت وَلَمْ تَضْرِبْ بِسَيْفِ ابْنِ ظَالِمِ

ثم قال: يا أمير المؤمنين كأن بابن القيَن _يعني الفرزدق_ وقد أجابني فقال:

ولانَقْتُلُ الْأَسْرَى وَلَكِنْ نَفُكُّهُمْ

إذَا أَثْقَلَ الْأَعْنَاقَ حَمْلُ الْمَغَارِمِ
وكذلك جرير أحس أن الفرزق سيرد على البيت بهذا البيت‘ ولم يرى الفرزدق.
فاستحسن سليمان حدس الفرزدق على جرير، ثم أخبر الفرزدق بشعر جرير، ولم يخبره بحدسه، فقال الفرزدق:

كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها
وتقطع أحيانًا مناط التمائم


ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم
إذا أثقل الأعناق حمل المغارم


وهل ضربة الرومي جاعلة لكم
أبًا عن كليب أو أخًا مثل دارم.

  

  كان جرير يسمي الفرزدق القَيْن، وأصل هذه التسمية؛ أن الفرزدق افتخر يومًا بنسبه يهجو جريرًا فقال:

ولست، ولو فقأت عينك، واجدًا

أبًا لك إن عد المساعي كدارم

 

هو الشيخ وابن الشيخ لا شيخ مثله

أبو كل ذي بيت رفيع الدعائم

   فأجابه جرير، يعرِض بدارم وهو جد الفرزدق:

أقين بن قين لا يسر نسائها

بذي نجب أَنا ادعينا لدارم

 

هو القين ابن القين لا قين مثله

لفطح المساحي أو لجدل الأداهم.

   والقين هو الصانع الذي يعمل بيديه والحداد.

   وكان الفرزدق يسمي جريرًا ابن المَراغة، والمراغة هي الحمارة أو الأتان، والأخطل هو الذي لقب جريرًا بابن المراغة، في الأصل.

   وترتيب الأخطل والفرزدق وجرير -في الولادة والوفاة- على ترتيب أسمائهم هنا، فإن الأخطل أقدمهم مولدًا وأولهم وفاة، ثم الفرزدق أصغر من الأخطل وأسن من جرير، وتوفي بعد الأخطل بـ 20 سنة وقبل جرير بسنة واحدة أو نحوها، وجرير أصغرهم سنًا وآخرهم وفاة.

   وأما ولادة الأخطل فقال أبو الفرج في الأغاني: "وقال ابن النطاح حدثني الأصمعي قال:  إنما أدرك جريرٌ الأخطل وهو شيخٌ قد تحطم. وكان الأخطل أسنَّ من جرير، وكان جرير يقول: أدركته وله نابٌ واحد، ولو أدركت له نابين لأكلني."

   وقد تصادق الأخطل مع الفرزدق، ولما رأى جرير من الصداقة بين الفرزدق والأخطل _وكان نصرانيًا_ قال:

ويسجد للصليب مع النصارى

وأفلج سهمنا ولنا الخيار

   وكان الفرزدق قد أُخرج من المدينة لأنهم شَهدوا عليه بالفجور، ولذلك يقول جرير:

إذا دخل المدينة فارجموه

ولا تُدنوه من جَدَث الرسول

   قيل أن أشعرهم الأخطل لولا أنه كان نصرانيًا، وقيل جرير أشعرهم، وقيل الفرزدق، وكل منهم له أنصاره.

   ولكن أجد _أنا شخصيًا_ أن النساء لهم نظرة جميلة في تقييم الشعر، وتمييز الأفضل منهم.

   وقد وجدت قصصًا عن سؤال كبار الشعراء مثل امرؤ القيس وغيره للنساء وتحكيم النساء.

   وقد يعود هذا الأمر لحس المرأة المرهف وتذوقها للشعر، ومكوثها الطويل في البيت وقراءة الشعر مراة ومراة، فهي قد تكون _أحيانًا_ أكثر عدلًا من الرجل في اختيار الأشعر.

   فقد دخل الفرزدق يومًا على سكينة بنت الحسين _رضي الله عنهما_ فسألته: من أشعر الناس؟ فقال: أنا. قالت: كذبت، أشعر الناس من يقول:

بنفسي من تجنبه عزيز

علي من زيارته لِمام

 

ومن أُمسي وأصبح لا أراه

ويَطرقني إذا هجع النيام

   ثم دخل عليها في اليوم الثاني، فقالت: من أشعر الناس؟ قال: أنا. قالت: كذبت، أشعر الناس من يقول:

لولا الحياء لهاجني استعبار

ولزرت قبرك والحبيب يُزار

 

كانت إذا هجر الضجيع فراشها

كتم الحديث وعفت الأسرار

 

لا يلبِث القراناء أن يتفرقوا

ليل يَكُر عليهم ونهار

   ثم دخل عليها في اليوم الثالث، فأعادت السؤال عليه، وأعاد الجواب نفسه، فقالت: أشعر منك من يقول:

إن العيون التي في طرفها حور

قثلننا ثم لم يحيين قتلانا

 

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به

وهن أضعف خلق الله إنسانا.

وجميع الأبيات لجرير.

   أرجو أن تكونوا قد استمتعتم بالقين وابن المراغة....