الاثنين، 25 أغسطس 2014

مقال أعجبني

يتناقل بعض النقاد قصة حسان بن ثابت - رضي الله عنه - مع النابغة في سوق عكاظ ويجعلونها ركيزة من ركائز النقد الجاهلي , ومثالا مهما من أمثلة النقد في ذلك العصر ,
وقد طبل المستشرقون وزمروا لتلك القصة , وجعلوها فتحا من فتوحات النقد في عصر الجاهلية
والغريب أن الكثير من أساتذة الجامعات يرددونها عند التمثيل للنقد في العصر الجاهلي , ولا يقبلون المناقشة فيها وكأنها نص مقدس ؛ حتى إن بعض زملاء الدراسة أراد أن يعرض رأي قدامة بن جعفر في نقد النابغة فلم يسمح له ذلك الدكتور

وقصة حسان مع النابغة :
أن النابغة كان يحكم بين الشعراء في سوق عكاظ , فجاءه حسان بن ثابت فأنشده

لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى .... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني محرق .... فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما

فقال له النابغة :
إنك شاعر لولا أنك أقللت جفانك وسيوفك , وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك
وقلت ( الغر ) ولو قلت ( البيض ) لكان أجود
وقلت : ( يلمعن ) ( في الضحى ) ولو قلت ( يبرقن ) ( في الدجي ) لكان أبلغ
- وقلت ( يقطرن دما ) ولو قلت ( يجرين ) لكان أفضل فجريان الدم دلالة على كثرة القتلى من الأعداء .
وإنك لا تحسن أن تقول مثل قولي :

فإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

والذي يقرأ القصة السابقة يتوهم أن النابغة محق في نقده

ثم رد قدامة بن جعفر ( المتوفى سنة 337 هـ ) في كتابه نقد الشعر على النابغة وبين أنه أجحف في نقده ,

يقول قدامة بن جعفر :

فإن النابغة – على ما حكي عنه – لم يرد من حسان إلا الإفراط والغلو ، وعلى أن من أنعم النظر علم أن هذا الرد على حسان من النابغة خطأ بين ، وأن حسان مصيب , فمن ذلك أن حسان لم يرد بقوله الغر أن يجعل الجفان بيضا وإنما أراد بقوله الغر: المشهورات ، كما يقال يوم أغر ، وليس يراد البياض في شي من ذلك ، بل تراد الشهرة .
وأما قول النابغة في : يلمعن بالضحى، أنه لو قال : بالدجى ، لكان أحسن من قوله :
بالضحى ، إذ كل شيء يلمع بالضحى ، فهو خلاف الحق وعكس الواجب ، لأنه ليس يكاد يلمع بالنهار من الأشياء إلا الساطع النور الشديد الضياء ، فأما الليل فأكثر الأشياء مما له أدنى نور وأيسر بصيص يلمع فيه , فمن ذلك الكواكب , وهي بارزة لنا مقابلة لأبصارنا دائما تلمع بالليل ويقل لمعانها بالنهار حتى تختفي , وكذلك المصابيح ينقص نورها كلما أضحى النهار , والليل تلمع فيه عيون السباع بشدة بصيصها .
أما قول النابغة , إن قوله في السيوف يجرين خير من يقطرن لأن الجري أكثر من القطر , فلم يرد حسان الكثرة , وإنما ذهب إلى ما يلفظ به الناس , ويعتادونه من وصف الشجاع الباسل والبطل الفاتك بأن يقولوا سيفه يقطر دما , ولم يسمع : سيفه يجري دما , ولعله لو قال يجرين دما لعدل عن المألوف المعروف من وصف الشجاع إلى ما لم تجرِ عادة العرب به ( انتهى كلام قدامة بن جعفر )

وتذكرت قول عنترة :
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
مني وبيض الهند تقطر من دمي

فلم يعب النقاد على عنترة عندما قال ( تقطر )

وأرى أن النابغة في سوق عكاظ أراد أن ينتصر لنفسه في نقده المجحف , والسبب أن حسان تفوق عليه عند عمرو بن الحارث

يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه :

قدمت على عمرو بن الحارث فدخلت عليه فوجدت عنده النابغة وهو جالس عن يمينه ، وعلقمة بن عبدة وهو جالس عن يساره ، فقال لي : يابن الفريعة ؛ قد عرفت عيصك ( أي أصلك , والفريعة أمه ) ونسبك في غسان ، فارجع فإني باعث إليك بصلة سنية ، ولاأحتاج إلى الشعر ، فإني أخاف عليك هذين السبعين _ النابغة وعلقمة _ أن يفضحاك ؛ وفضيحتك فضيحتي ، وأنت والله لاتحسن أن تقول :

رقاق النعال طيب حجزاتهم
يحيون بالريحان يوم السباسب

فأبيت وقلت : لابد منه . فقال ذاك إلى عميك ، فقلت لهما: بحق الملك إلا قدمتماني عليكما! فقالا: قد فعلنا ، فقال عمرو بن الحارث : هات يابن الفريعة، فأنشأت :

لله در عصابة نادمتهم
يوما بجلق في الزمان الأول

أولاد جفنة عند قبر أبيهم
قبر ابن مارية الكريم المفضل

يسقون من ورد البريص عليهم
بردى يصفق بالرحيق السسل

يُغشون حتى ماتهر كلابهم
لايسألون عن السواد المقبل

بيض الوجوه كريمة أحسابهم
شم الأنوف من الطراز الأول

فلبثت أزمانا طوالا فيهم
ثم ادركت كأنني لم أفعل

قال: فلم يزل عمرو بن الحارث يزحل عن موضعه سرورا ، وهو يقول: هذا وأبيك الشعر ؛ لا ما يعللاني به منذ اليوم ! هذه والله البتارة التي قد بترت المدائح ! هات له ياغلام ألف دينار مرجوحة ، فأعطيت ذلك ، ثم قال: لك علىّ في كل سنة مثلها .

وأود أن أعلق على بيت حسان :
يُغشون حتى ماتهر كلابهم .... لايسألون عن السواد المقبل

فما أجمل هذا البيت , وما أجوده ؛ فهو يصف ممدوحيه بالكرم والشجاعة , وما أكرم أولئك القوم الذين لا تهر كلابهم من كثرة الضيوف , والعرب تقول للكريم : \" فلان جبان الكلب \" كناية عن الكرم , لأن كلبه اعتاد قدوم الضيفان في كل وقت , فلا ينبحهم , فكأن الكلب جبان , بعكس البخيل فكلبه يهاجم الضيوف لأنه غير معتاد عليهم .
وكذلك أولئك القوم لا يسألون عن السواد المقبل , فإن كان ضيفا أكرموه وإن كان عدوا قاتلوه

ولعل النابغة أخذ موقفا من أهل المدينة عندما قدم إليهم , فقال :

أمن آل مية رائح أو مغتدِ ..... عجلان ذا زاد وغير مزودِ
زعم البوارح أن رحلتنا غدا ..... وبذاك خبرنا الغراب الأسودُ

فأدرك أهل المدينة الخلل في شعر النابغة , وهو الإقواء ( والإقواء اختلاف حركة الروي , فالدال الأولى مكسورة , والأخرى مضمومة )
فأرادوا أن ينبهوه إلى الخطأ الذي ارتكبه , ولكنهم تقديرا له أرادوا أن يخبروه بطريقة غير مباشرة , فجاؤوا بجارية تغني الأبيات , وتمد حرف الروي في غنائها , فتنبه النابغة للخلل .

ملاحظات :

1- من غير المعقول أن يأتي حسان بن ثابت رضي الله عنه ببيتين فيهما سبعة أخطاء , وهو الذي قد قال عنه الأصمعي : ( حسان بن ثابت أحد فحول الشعراء ) , ولو كان في شعره خلل لما اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى , وكذلك اختاره الصحابة الكرام وفيهم نقاد بصيرون كعمر رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها , وهم نقاد يعرفون أسرار البيان .

2- أن حسان بن ثابت رضي الله عنه يكفيه فخرا أنه شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم , وسخر شعره للدفاع عن الإسلام , وكان شعره على الكافرين أشد من وقع النبال , ويقول له الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اهجهم وروح القدس معك ) .

3- أن النابغة في قوله (وإنك لا تحسن أن تقول مثل قولي :
فإنك كالليل الذي هو مدركــي… وإن خلت أن المنتأي عنك واسع ) كأنه ينتقم لنفسه , ويظهر التعالي ويستغل مكانته في السوق للنيل من حسان نظرا لمواقف شعرية سابقة تفوق فيها حسان عليه

4- من خلال بحثي في شعر حسان بن ثابت رضي الله عنه تبين لي أنه قد ظلم كثيرا ونسب إليه الكثير من رديء الشعر للنيل منه , ولا يزال الظلم مستمرا إلى اليوم عندما جعلت هذه القصة التي تنال من شاعريته مثالا للنقد الجاهلي وعدم ذكر الآراء المؤيدة لقوله والمنافحة عنه .

5- أن الظلم قد تجاوز شاعريته إلى النيل من شخصه الكريم فنعتوه بالجبن , واستدلوا بروايات لا تؤيد كلامهم , وهذا ينافي محبة صحابي جليل دافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , فرضي الله عن حسان وأرضاه .

بقلم :
الأديب والشاعر : رداد بن شبير الفضلي الهذلي

الخميس، 6 مارس 2014

ناجيت قبرك


ناجيت قبرك (1)

 

 

  الرثاء: هو التفجّع بالميت والتأسي والتعزي.

وقد عُرف عن العرب رثاء من هو عزيز عليهم.

  ولكني لم أجد رثاء للزوجة! أقوى وأقدس علاقة تجمع بين الرجل والمرأة.

  فعندما تقلب دواوين الشعر لتبحث عن رثاء قيل بالزوجة _ لا سيما في الشعر القديم _ يكاد يكون معدومًا.

  فأول من نظم قصيدة في رثاء زوجته (جرير)، أما من سبقه فلا تجد للزوجة ذكر إلا في بيت أو بيتين وعلى استحياء كذلك!

  ويرجع السبب للعادات والتقاليد منذ القدم؛ حيث أن ذكر المرأة في مجالس الرجال يعد من الأمور التي فيها تحرج على الرجل! وإلى هذا الزمان. فأذكر أنني في المدرسة أتحرج من ذكر اسم أي امرأة، وإذا أردنا أن نستهزء بشخص نُذكره باسم أمه، وإذا عرفنا اسم أم فلان عُير بها طول السنة بل أكثر من ذلك!

  فالمرأة ترمز إلى الضعف والخيانة وجميع الصفات السيئة _كما يعتقد القدماء_ ولم تقتصر هذه المعتقدات على العرب، بل كان الفرسان النبلاء في أوروبا في العصور الوسطى؛ يقيدون نسائهم بالسلاسل إلى حين عودة زوجها! ولا يفتح السلاسل إلا زوجها!

  والإسلام كرم المرأة وأعطاها مكانتها، فعندما تقرأ سيرة الرسول _صلى الله عليه وسلم_ مع نسائه لا تجد هذه المعتقدات أبدًا.

  وكما ذكرت أنّ أو مرثية قيلت في (خالدة) زوجة (جرير)، ومع أنه أفرد قصيدة كاملة لها، إلا أن موضوعها لم يكن لرثائها فقط.

لولا الحياء لهاجني استعبار

ولزرت قبرك الحبيب يُزار!

 

ولهت نفسي إذ عرتني كبرة

وذوو التمائم من بنيك صغار.

 

  إذًا هو لم يزر قبرها! ويذكر في القصيدة الخوف من الوحدة وترك الأطفال وحدهم! إذًا لم يكن رثاءًا حقيقة! بل تطرق في نفس القصيدة لهجاء الفرزدق! أي رثاء هذا؟!.

  ولا ألومه على هذا الأمر، فقد بدأ بأمر لم يُعرف على مر السنين.

  ومع ذلك لم يَسلم من النقد، فقد هجاه الفرزدق حين قال:

إنّ الزيارة في الحياة ولا أرى

ميتًا إذا دخل القُبور يُزار

 

ورثيتَها وفَضحتَها في قبرها

ما مثلَ ذلك تفعل الأخيار.

  وامتدّ هذا التخوف من رثاء الزوجات، وتغلبت العادات والتقاليد على الطبيعة الفطرية البشرية، حتى في العصر العباسي! فنجد البحتري يستنكر بكاء أبي نهشل في ابنته حيث يقول:

وسفاهُ أن يَجزَعَ المرء مما

كان حتمًا على العباد قضاء

 

أتُبكي من لم يُنازِل بالسيف

مشيحًا ولا يهز اللواء

 

لسن من زينة الحياة كعدِّ

الله منها الأموال والأبناء

 

قد ولدن الأعداء قدمًا ورثّن

التلاد الأقاصي البُعَداء

 

ولعمري ما العجز عندي إلا

أن تبيتَ الرجال تبكي النساء.

 

  نجد في البيت الأخير القسوة التي وصل إليها الشعراء في ذلك العصر.

  لكن في الأندلس اختلف الأمر فقد ظهر شعر في النساء بل قصائد كاملة، وبدأ الاهتمام في المرأة، واستمر الأمر إلى زماننا هذا.        

  فالبارودي (2) كتب قصيدة طويلة جدًا في رثاء زوجته بلغ عدد أبياتها سبعة وستين بيتًا، بل إن بعض الشعراء كتبوا دواوين كاملة عن المرأة! فنجد ابن جبير قد أفرد ديوانًا يرثي به زوجته (أم المجد)، وقد أسماه (نتيجة وجد الحوانج في تأيين القرين الصالح)، ولعل هذا الديوان الأول في تاريخ الشعر العربي في رثاء الزوجات. أما الشعراء المعاصرون فتجد من رثى زوجته بديوان مستقل، مثل: الشاعر (عبدالرحمن صدقي) ديوان (من وحي المرأة)، والشاعر (عزيز أباظة) ديوان (أنات حائرة)....وغيرهم.

 

  وليس من الإنصاف ذكر محاسن المرأة، بل تفاصيل جسدها والتغزل بها، ثم إذا ماتت نسيها، وأصبح من الضعف ذكرها!!

  هذا ما لا يقبله مسلم عاقل عادل....

  وأحب أن أستعرض بعض القصائد التي قيلت في زوجات قد رحلوا من هذه الدنيا....

  وأبدأ بسيد الخلق محمد _صلى الله عليه وسلم_ وهذه الفقرة لست بشعر؛ لأن النبي _صلى الله عليه وسلم_ لا يقول الشعر.

  إنما هو قدوتنا في جميع أمور حياتنا.

 (فصورتها تخطر لي دائمًا ، لا تبرح ذهني كلما فكرت في الزوجة المثلى؛ تلك التي تتخير زوجها وهو غارق في ميدان كفاحه، فتقف إلى جانبه في الهزيمة والفوز واليأس والأمل! تشد أزره، وتتلقى معه الضربات، وتسهد معه الليالي، وتتلطخ معه بالدماء، وتضمد له الجروح، وتبذل له ما تملك من راحة ومال؛ حتى يصل في النهاية إلى النصر الأخير!

  هكذا فعلت خديجة ... إنها حملت على عاتقها أشياء كثيرة، حتى الحب هي التي حملته في قلبها أولًا ... وقدمته إلى محمد فبادلها إياه وقاسمها حمله ... فهو قبل أن يعرفها لم يعرف قلبه الحب ... لقد كانت حياته _حتى الخامسة والعشرين_ حياة الشاب الهادئ البعيد عن النساء، العاكف على عمله، يرعى الغنم في الفلاة، ويلجأ إلى التأمل العميق ... فلم يكن للهو، والمرأة _حتى ذلك الوقت_ مكان من اهتمامه أو تفكيره .. كانت العفة المطلقة هي صفته الغالبة وقتئذ، وكان له من الزهد والعلم والصبر والتواضع ما ميزه عن بقية الشبان، وما جعل قومه يسمونه الأمين!

  ما الذي كان يشغل رأس الشاب (محمد) في تلك السن، ما دام اللهو والمرأة لا محل لهما عنده؟ أتراه يحس في قرارة نفسه بمصيره العظيم؟ لا ريب في ذلك! ... لقد كان هذا دائمًا شأن أغلب أولئك الذين انتظرتهم أقدار عظام، وتملكتهم منذ نشأتهم مثل عليا وأحلام، عمرت كل أعوام شبابهم، وحلت فيها محل اللهو والمرح! .. إن كل شاب يعيش مع شبح امرأة جميلة؛ إلا الشاب الموعود برسالة عظيمة، فهو يعيش مع شبح المجد المنتظر!

  لعل هذا يفسر لنا بعض الشيء حياة الفتى (محمد) حتى الوقت الذي لقى فيه أول امرأة أحبها. (خديجة) .. ومن يدري لو لم تكن خديجة هي البادئة بالحب ما الذي كان يحدث؟ ..كل شيء يدل على أن الزواج لم يخطر له على بال، والزوجة والمرأة آخر ما كان يفكر فيه وقتئذ؛ فلقد كان يسير في طريق تأملاته الداخلية وأحلامه العليا؛ وكأنه لا يمشي على هذه الأرض، إلى أن لحظته خديجة ذات اليوم، ولمست كتفه، فأفاق قليلًا، وضع عينيه إليها!

  لقد كان ذلك رائعًا حقًا من امرأة مثلها، ذات شرف وثروة، أن تبدأ هي الخطوة الأولى نحو رجل فقير يتيم! .. هي التي تقدم إليها أكرم رجال قريش نسبًا، وأعظمهم شرفًا، وأكثرهم مالًا ... طلبوها وبذلوا الأموال فلم تلتفت إليهم، وأرسلت تابعتها (نفيسة) دسيسًا إلى الشاب (محمد) تعرض إليه يدها، وتزوجته، ورأت أيام شكه وقلقه وتعسه وشقائه!

  رأته وهو يدخل عليها مرتعدًا من الروع الشديد قائلًا: دثروني دثروني! ، فدثرته حادبة عليه، قائلة في قلق: رحمة بي! .. خبرني بأمرك! فيقول لها: إني خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد! ... يا محمد! ... فانطلقت هاربًا في الأرض! ... لقد خشيت على نفسي! ... إني أرى ضوءًا وأسمع صوتًا! .. وإني لأخشى أن أكون كاهنًا! .. يا خديجة .. والله ما أبغضت _بغض هذه الأصنام_ شيئًا قط، ولا الكهان.

  فتقول له: هون عليك!.. والله ما يخزيك الله أبدًا .. إن الله لا يفعل ذلك بك أبدًا .. إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وإن خلقك كريم.

  وبهذا تسري عنه .. ولا تهزأ به كما هزأ به قومه الذين سبوه وسفهوه وآذوه، وحَثَوا على رأسه التراب .. بل آمنت به وصدقته، يوم لم يجد حوله أحد يحمل كلامه محمل الجد. لقد جاءها يومًا يخبرها مرتاعًا أنه رأى (ملكاً) هبط عليها من السماء وكلمه، وسمع صوته! .. وليس يدري أملك هو حقًا أم شيطان؟! فأرادت أن تقطع شكه بيقين، فقالت له: إذا جاءك صاحبك، هذا الذي يأتيك فأخبرني به! فلما نزل عليه جبريل أخبرها.. فنزعت خمارها الذي تنحسر به، وقالت له: هل تراه الآن؟ فنظر محمد فلم ير (جبريل) قال: لا! فصاحت فرحة: اثبت وأبشر فوالله إنه لملك وما هو بشيطان؛ إذ لوكان شيطانًا لما استحيا!.

  وهكذا ظلت إلى جانبه تبدد شكوكه، وتؤمن برسالته.. إلى ساعتها الأخيرة.. ويوم علم أعداء محمد بقرب وفاتها، تهامسوا فرحين: خديجة في الموت.. ولم يستطع أبو لهب _عدو النبي الأكبر_ أن يكتم اغتباظه، فجعل يقول لمن معه: أجل.. عما قليل تذهب تلك التي كانت تشد أزره وتعز شأنه.

  ولفظت خديجة روحها التي كانت منبع الحب، الذي استطاع بقوته وسموه أن يفتح قلب محمد، وأن يكلأه كل تلك الأعوام التي عاشتها. بل إن هذا الحب لم ينطفئ بموت خديجة، ولقد ظل مكانها في قلبه قائمًا دائمًا، لم تستطع قط أي امرأة أن تزاحمها فيه، حتى عائشة _رضي الله عنها_ التي كانت أحب امرأة إليه بعد ذلك.. ما استطاعت أن ترتفع إلى مكان خديجة من نفسه، وقد غرها يومًا شدة حب النبي _صلى الله عليه وسلم_ لها، فقالت له بدلال: ألست خير النساء عندك؟ فأجابها للفور: وخديجة؟! فقالت: ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيرًا منها! وكانت زلة.. لم تدرك مداها إلا بما بدا على وجه محمد _صلى الله عليه وسلم_ من غضب شديد.. إنها لم تره قط غضب منها على هذا النحو.. فقد نهض تاركًا لها المكان، وهو يقول: والله ما أبدلني الله خيرًا منها، آمنت بي حين كذبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس. وكظمت عائشة _رضي الله عنها_ غيظها في صدرها وهي تهمس: لكأنه ليس في الأرض امرأة إلا خديجة.. حقًا.. لقد صدقت.. نعم.. ليس في الأرض غير قليل من النساء مثل خديجة.. إن المرأة النادرة هي هبة الله الكبرى.) (3)

 

 

  هذا نموذج لحب النبي _صلى الله عليه وسلم_ لزوجته التي توفاها الله تعالى. فلم ينساها، بل كان يذكرها، ويذكر فضلها. ولو قال الشعر؛ لنظم لها أبياتًا كثيره. إلا أن نبينا _صلى الله عليه وسلم_ لم يقل الشعر قط.

  ودعوني أذكر طائفة من الأحاديث النبوية في خديجة _رضي الله عنها_:

    لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب فداء زوجها أبي العاص بن أبي الربيع بمال وبعثت فيه قلادة لها كانت عند خديجة أدخلتها بها على أبي العاص، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّ لها رقة شديدة وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها، فقالوا: نعم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عليه أن يخلي سبيل زينب إليه، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلًا من الأنصار فقال لهما: كونا ببطن يأجِجَ حتى تمر لكما زينب فتصحبها حتى تأتيا بها. (4)

  كانت تأتي النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فيكرمها، فقلت: يا رسول الله! من هذه؟ قال: هذه كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان. (5)

  كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة يقول: (اذهبوا بذي إلى أصدقاء خديجة) قالت: فأغضبته يومًا فقال صلى الله عليه وسلم: (إني رزقت حبها). (6)

ما غرت على أحد من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما بي أن أكون أدركتها وما ذاك إلا لكثرة ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم لها .... (7)

كان إذا أُتي بشيء يقول: اذهبوا به إلى فلانة، فإنها كانت صديقة خديجة، اذهبوا إلى بيت فلانة فإنها كانت تحب خديجة. (8)

 

  والأحاديث كثيرة جدًا، نتوقف عند هذا الحد، وأبدأ بذكر بعض القصائد التي قيلت رثاءًا لزوجات قد فارقوا أحبابهم.

  هذي القصيدة للشاعر محمد الجواهري

في ذِمَّةِ اللهِ ما ألقَى وما أَجِــدُ

أهذهِ صَخرةٌ أم هذهِ كَبِـــدُ

 

قدْ يقتلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُـدوا

عنه فكيفَ بمنْ أحبابُهُ فُقِــدوا

 

تَجري على رَسْلِها الدنيا ويَتْبَعُها

رأْيٌ بتعليـلِ مَجْراهـا ومُعْتَقَـدُ

 

أَعْيَا الفلاسفةَ الأحرارَ جَهْلُهمُ

ماذا يُخَبِّـي لهم في دَفَّتَيْـهِ غَـدُ

 

طالَ التَّمَحُّلُ واعتاصتْ حُلولُهمُ

ولا تَزالُ على ما كانتِ العُقَـدُ

 

ليتَ الحياةَ وليتَ الموتَ مَرْحَمَـة ٌ

فلا الشبابُ ابنُ عشرينٍ ولا لَبدُ

 

ولا الفتاةُ بريعانِ الصِّبا قُصِفَـتْ

ولا العجوزُ على الكَـفَّيْنِ تَعْتَمِـدُ

 

وليتَ أنَّ النسورَ اسْتُنْزِفَتْ نَصَفَاً

أعمارُهُنَّ ولم يُخْصَصْ بها أحـدُ

 

حُيِّيتِ (أمَّ فُـرَاتٍ) إنَّ والـدة

بمثلِ ما انجبتْ تُـكْنى بما تَـلِـدُ

 

تحيَّةً لم أجِدْ من بـثِّ لاعِجِهَـا

بُدَّاً, وإنْ قامَ سَـدّاً بيننا اللَّحـدُ

 

بالرُوحِ رُدَّي عليها إنّها صِلَـةٌ

بينَ المحِبينَ ماذا ينفعُ الجَـســدُ

 

عَزَّتْ دموعيَ لو لمْ تبعثي شَجناً

رَجعتُ منهُ لحرَّ الدمعِ أَبْـتَــرِدُ

 

خلعتُ ثوبَ اصطبارٍ كانَ يستُرُنـي

وبانَ كَذِبُ ادَّعائي أنني جَلِـدُ

 

بَكَيْتُ حتى بكا مَنْ ليسَ يعرفُني

ونُحْتُ حتىَّ حكاني طائرٌ غَــرِدُ

 

كما تَفجَّر عيناً ثـرة حَجَـــرُ

قاسٍ تفجَّرَ دمعاً قلبيَ الصَّلِــدُ

 

إنَّا إلى اللهِ! قولٌ يَستريحُ بــهِ

ويَستوي فيهِ مَن دانوا ومَن جَحَدُوا

 

مُدي إليَّ يَداً تـُمْدَدْ إليكِ يَـدُ

لا بُدَّ في العيشِ أو في الموتِ نَتَّحِـدُ

 

كُنَّا كشِقَّيْنِ وافى واحِـدا ً قَـدَرٌ

وأمرُ ثانيهما مِن أمـرهِ صَـدَدُ

 

ناجيتُ قَبْرَكِ أستوحـي غياهِبَـهُ

عنْ حالِ ضَيْفٍ عليه مُعْجَلاً يَفِـدُ

 

وردَّدَتْ قَفْرَة ٌ في القلب ِ قاحِـلة ٌ

صَدى الذي يَبتغي وِرْدَاً فلا يَجِـدُ

 

ولفَّني شَبَـحٌ ما كانَ أشبهَــهُ

بِجَعْدِ شَـعْرِكِ حولَ الوجهِ يَنْعَـقِدُ

 

ألقيتُ رأسـيَ في طَّياتِـهِ فَزِعَـاً

نَظِير صُنْعيَ إذ آسى وأُفْتَــأدُ

 

أيّامَ إنْ ضاقَ صدري أستريحُ إلـى

صَدْرٍ هو الدهـرُ ما وفّى وما يَعِدُ

 

لا يُوحِشُ اللهُ رَبْعَاً تَـنْزِليـنَ بـهِ

أظُنُّ قبرَكِ رَوْضَاً نورُهُ يَقِــدُ

 

وأنَّ رَوْحَـكِ رُوحٌ تأنَسِينَ بهـا

إذا تململَ مَيْتٌ رُوحُهُ نَـكَــدُ

 

كُنَّا كنَبْتَـةِ رَيْحَـانٍ تَخَطَّمَهـا

صِرٌّ فأوراقُـها مَنْزُوعَة ٌ بَــدَدُ

 

غَطَّى جناحاكِ أطفالي فكُنْتِ لَهُـمْ

ثَغْرَاً إذا استيقظوا , عَيْنَاً إذا رَقَدوا

 

شَتَّى حقوقٍ لها ضاقَ الوفاءُ بها

فهل يكـونُ وفـاءً أنّـني كَمِـدُ

 

لم يَلْقَ في قلبِها غِلٌّ ولا دَنَـسٌ

لهُ مَحلاً ، ولا خُبْـثٌ ولا حَسَـدُ

 

ولم تَكُنْ ضرَّةً غَيْرَى لجارتِـها

تُلوى لخيـرٍ يُواتيها وتُضْطَهَـدُ

 

ولا تَذِلُّ لِخَطْبٍ حُـمَّ نازِلُـهُ

ولا يُصَعِّـرُ منها المـالُ والوَلَـدُ

 

قالوا أتى البرقُ عَجلاناً فقلتُ لهـمْ

واللهِ لو كانَ خيرٌ أبْطَـأَتْ بُـرُدُ

 

ضاقتْ مرابِعُ لُبنان بما رَحُبَـتْ

عليَّ والتفَّتِ الآكامُ والنُجُــدُ

 

تلكَ التي رَقَصَتْ للعينِ بَهْجَتُـها

أيامَ كُنّـا وكانتْ عِيشَةٌ رَغَـــدُ

 

سوداءُ تَنْفُخُ عن ذكرى تُحَرِّقُـني

حتَّـى كأنّي على رَيْعَانِهَا حَــرِدُ

 

واللهِ لم يَحْلُ لي مَغْـدَىً ومُنْتَقَلٌ

لما نُـعِيتِ ولا شخصٌ ولا بَلَـدُ

 

أين المَفَـرُّ وما فيها يُطَارِدُنـي

والذكرياتُ ، طَرِيَّاً عُودُها، جُـدُدُ

 

أألظـلالُ التي كانَـتْ تُفَيِّئُنَـا

أمِ الهِضَابُ أمِ الماءُ الذي نَــرِدُ

 

أمْ أنتِ ماثِلَة ٌ؟ مِن ثَمَّ مُطَّـرَحٌ

لنا ومِنْ ثَـمَّ مُرْتَاحٌ ومُتَّـسَـدُ

 

سُرْعَانَ ما حالَتِ الرؤيا وما اختلفتْ

رُؤَىً , ولا طالَ- إلا ساعة ً- أَمَـدُ

 

مَرَرْتُ بالحَوْر ِ والأعراسُ تملأهُ

وعُدْتُ وهو كمَثْوَى الجانِّ ِ يَرْتَـعِدُ

 

مُنَىً - وأتْعِسْ بها- أن لا يكونَ على

توديعِهَا وهي في تابوتِـها رَصَدُ

 

لعلنِي قَـارِئٌ في حُـرِّ صَفْحَتِهَا

أيَّ العواطِفِ والأهـواءِ تَحْتَشِدُ

 

وسَامِعٌ لَفْظَـةً منها تُقَرِّظُـني

أمْ أنَّهَا - ومعـاذَ اللهِ - تَنْتَقِـدُ

 

ولاقِطٌ نَظْرَةً عَجْلَى يكـونُ بها

لي في الحَيَاةِ وما أَلْقَى بِهَا ، سَنَـدُ

 

  وهذه قصيدة أُخرى قالها البارودي عندما بلغه خبر وفاة زوجته (عديلة بنت أحمد يَكَن باشا) وهو في سرنديب (سيلان حاليًا) :

 

أيدَ المنُونِ قدَحتِ أى َّ زِنادِ .....وأطرتِ أى َّ شعلة ٍ بفؤادى

أوهَنتِ عزمى وهو حَملة ُ فيلقٍ .... وحَطَمتِ عودى وهو رُمحُ طِرادِ

لم أدرِ هَلْ خَطبٌ ألمَّ بِساحتى ... فَأَنَاخَ، أَمْ سَهْمٌ أَصابَ سَوَادِي؟

أَقْذَى الْعُيُونَ فَأَسْبَلَتْ بِمَدَامِعٍ ... تجرى على الخدَّينِ كالفِرصادِ

ما كُنْتُ أَحْسَبُنِي أُراعُ لِحَادِثٍ ... حتَّى مُنيتُ بهِ فأَوهَنَ آدى

أَبلتنى الحسراتُ حتَّى لم يكد ... جِسْمِي يَلُوحُ لأَعْيُنِ الْعُوَّادِ

أَسْتَنْجِدُ الزَّفَراتِ وَهْيَ لَوافِحٌ ... وَأُسَفِّهُ الْعَبَرَاتِ وَهْيَ بَوَادِي

لا لوعتى تدعُ الفؤادَ ، ولا يدى ... تقوَى على ردِّ الحبيبِ الغادى

يا دَهْرُ، فِيمَ فَجَعْتَنِي بِحَلِيْلَة ٍ؟ ... كانَتْ خَلاصَة َ عُدَّتِي وَعَتَادِي

إِنْ كُنْتَ لَمْ تَرْحَمْ ضَنَايَ لِبُعْدِها ... أفلا رحِمتَ منَ الأسى أولادى ؟

أَفْرَدْتَهُنَّ فَلَمْ يَنَمْنَ تَوَجُّعاً ... قرحَى العيونِ رواجِفَ الأكباد

أَلْقَيْنَ دُرَّ عُقُودِهِنَّ، وَصُغْنَ مِنْ ... دُرِّ الدُّموعِ قلائدَ الأجيادِ

يبكينَ من ولهٍ فراقَ حَفيَّة ٍ ... كانتْ لَهنَّ كثيرة َ الإسعادِ

فَخُدُودُهُنَّ مِنَ الدُّمُوعِ نَدِيَّة ٌ ... وقًلوبُهنَّ منَ الهمومِ صوادى

أسليلة َ القمرينِ ! أى ُّ فجيعة ٍ ... حَلَّتْ لِفَقْدِكَ بَيْنَ هَذَا النَّادِي؟

أعزز على َّ بأن أراكِ رهينة ً ... في جَوْفِ أَغْبَرَ قاتِمِ الأَسْدَادِ!

أَوْ أَنْ تَبِينِي عَنْ قَرَارَةِ مَنْزِلٍ ... كُنْتِ الضِيَاءَ لَهُ بِكُلِّ سَوَادِ

لَوْ كَانَ هَذَا الدَّهْرُ يَقْبَلُ فِدْيَةً ... بِالنَّفْسِ عَنْكِ لَكُنْتُ أَوَّلَ فَادِي

أَوْ كَانَ يَرْهَبُ صَوْلَةً مِنْ فَاتِكٍ ... لَفَعَلْتُ فِعْلَ الْحَارِثِ بْنِ عُبَادِ

لَكِنَّهَا الأَقْدَارُ لَيْسَ بِنَاجِعٍ ... فِيها سِوَى التَّسْلِيمِ وَالإِخْلادِ

فَبِأَيِّ مَقْدِرَةٍ أَرُدُّ يَدَ الأَسَى ... عَنِّي وَقَدْ مَلَكَتْ عِنَانَ رَشَادِي

أَفَأَسْتَعِينُ الصَّبْرَ وَهْوَ قَسَاوَةٌ ... أَمْ أَصْحَبُ السُّلْوَانَ وَهْوَ تَعَادِي

جَزَعُ الْفَتَى سِمَةُ الْوَفَاءِ وصَبْرُهُ ... غَدْرٌ يَدُلُّ بِهِ عَلَى الأَحْقَادِ

وَمِنَ الْبَلِيَّةِ أَنْ يُسَامَ أَخُو الأَسَى ... رَعْيَ التَّجَلُّدِ وَهْوَ غَيْرُ جَمَادِ

هَيْهَاتَ بَعْدَكِ أَنْ تَقَرَّ جَوَانِحِي ... أَسَفاً لِبُعْدِكِ أَوْ يَلِينَ مِهَادِي

وَلَهِي عَلَيكِ مُصاحِبٌ لِمَسِيرَتِي ... وَالدَّمْعُ فِيكِ مُلازِمٌ لِوِسَادِي

فَإِذَا انْتَبَهْتُ فَأَنْتِ أَوَّلُ ذُكْرَتِي ... وَإِذَا أَوَيْتُ فَأَنْتِ آخِرُ زَادِي

أَمْسَيْتُ بَعْدَكِ عِبْرَةً لِذَوِي الأَسَى ... فِي يَوْمِ كُلِّ مُصِيبَةٍ وَحِدَادِ

مُتَخَشِّعَاً أَمْشِي الضَّرَّاءَ كَأَنَّنِي ... أَخْشَى الْفُجَاءَةَ مِنْ صِيَالِ أَعَادِي

مَا بَيْنَ حُزْنٍ بَاطنٍ أَكَلَ الْحَشَا ... بِلَهِيبِ سَوْرَتِهِ وَسُقْمٍ بَادِي

وَرَدَ الْبَرِيدُ بِغَيْرِ ما أَمَّلْتُهُ ... تَعِسَ الْبَرِيدُ وشَاهَ وَجْهُ الْحَادِي

فَسَقَطْتُ مَغْشِيَّاً عَلَيَّ كَأَنَّمَا ... نَهَشَتْ صَمِيمَ الْقَلْبِ حَيَّةُ وَادِي

وَيْلُمِّهِ رُزءَاً أَطَارَ نَعِيُّهُ ... بِالْقَلْبِ شُعْلَةَ مَارِجٍ وَقَّادِ

قَدْ أَظْلَمَتْ مِنْهُ الْعُيُونُ كَأَنَّما ... كَحَل الْبُكَاءُ جُفُونَها بِقَتَادِ

عَظُمَتْ مُصِيبَتُهُ عَلَيَّ بِقَدْرِ مَا ... عَظُمَتْ لَدَيَّ شَمَاتَةُ الْحُسَّادِ

لامُوا عَلَى جَزَعِي وَلَمَّا يَعْلَمُوا ... أَنَّ الْمَلامَةَ لا تَرُدُّ قِيَادِي

فَلَئِنْ لَبِيدُ قَضَى بِحَوْلٍ كَامِلٍ ... فِي الْحُزْنِ فَهْوَ قَضَاءُ غَيْرِ جَوَادِ

لَبِسَ الزَّمَانَ عَلَى اخْتِلافِ صُرُوفِهِ ... دُوَلاً وَفَلَّ عَرَائِكَ الآبَادِ

كَمْ بَيْنَ عَادِيٍّ تَمَلَّى عُمْرَهُ ... حِقَباً وَبَيْنَ حَدِيثَةِ الْمِيلادِ

هَذَا قَضَى وَطَرَ الْحَيَاةِ وتِلْكَ لَمْ ... تَبْلُغْ شَبِيبَةَ عُمْرِهَا الْمُعْتَادِ

فَعَلامَ أَتْبَعُ مَا يَقُولُ وَحُكْمُهُ ... لا يَسْتَوِي لِتَبَايُنِ الأَضْدَادِ

سِرْ يَا نَسِيمُ فَبَلِّغِ الْقَبْرَ الَّذِي ... بِحِمَى الإِمَامِ تَحِيَّتِي ووِدَادِي

أَخْبِرْهُ أَنِّي بَعْدَهُ في مَعْشَرٍ ... يَسْتَجْلِبُونَ صَلاحَهُمْ بِفَسَادِي

طُبِعُوا على حَسَدٍ فَأَنْتَ تَرَاهُمُ ... مَرْضَى الْقُلُوبِ أَصِحَّةَ الأَجْسَادِ

وَلَوَ انَّهُمْ عَلِمُوا خَبِيئَةَ ما طَوَى ... لَهُمُ الرَّدَى لَمْ يَقْدَحُوا بِزِنادِ

كُلُّ امْرِئٍ يَوْماً مُلاقٍ رَبَّهُ ... والنَّاسُ فِي الدُّنْيَا عَلى مِيعَادِ

وَكَفَى بِعَادِيَةِ الْحَوَادِثِ مُنْذِراً ... لِلْغَافِلِينَ لَوِ اكْتَفُوا بِعَوَادِي

فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ نَظْرَةَ عَاقِلٍ ... لِمَصَارِعِ الآباءِ وَالأَجْدَادِ

عَصَفَ الزَمَانُ بِهِمْ فَبَدَّدَ شَمْلَهُمْ ... فِي الأَرْضِ بَيْنَ تَهَائِمٍ وَنِجَادِ

دَهْرٌ كَأَنَّا مِنْ جَرَائِرِ سِلْمِهِ ... فِي حَرِّ يَوْمِ كَرِيهَةٍ وجِلادِ

أَفْنَى الْجَبَابِرَ مِنْ مَقَاوِلِ حِمْيَرٍ ... وأُولِي الزَّعَامَةِ مِنْ ثَمُودَ وَعَادِ

وَرَمَى قُضَاعَةَ فَاسْتَبَاحَ دِيارَهَا ... بِالسُّخْطِ مِنْ سابُورَ ذِي الأَجْنَادِ

وَأَصَابَ عَنْ عُرْضٍ إِيادَ فَأَصْبَحَتْ ... مَنْكُوسَةَ الأَعْلامِ فِي سِنْدَادِ

فَسَلِ الْمَدَائِنَ فَهْيَ مَنْجَمُ عِبْرَةٍ ... عَمَّا رَأَتْ مِنْ حَاضِرٍ أَوْ بَادِي

كَرَّتْ عَلَيْهَا الْحَادِثَاتُ فَلَمْ تَدَعْ ... إِلَّا بَقَايَا أَرْسُمٍ وَعِمَادِ

وَاعْكُفْ عَلَى الْهَرَمَيْنِ واسْأَلْ عَنْهُمَا ... بَلْهِيبَ فَهْوَ خَطِيبُ ذَاكَ الْوَادِي

تُنْبِئْكَ أَلْسِنَةُ الصُّمُوتِ بِمَا جَرَى ... في الدَّهْرِ مِنْ عَدَمٍ ومِنْ إِيْجَادِ

أُمَمٌ خَلَتْ فَاسْتَعْجَمَتْ أَخْبَارُها ... حَتَّى غَدَتْ مَجْهُولَةَ الإِسْنَادِ

فَعَلامَ يَخْشَى الْمَرْءُ صَرْعَةَ يَوْمِهِ ... أَوَلَيْسَ أَنَّ حَيَاتَهُ لِنَفَادِ

تَعَسَ امْرُؤٌ نَسِيَ الْمَعَادَ وَمَا دَرَى ... أَنَّ الْمَنُونَ إِلَيْهِ بِالْمِرْصَادِ

فَاسْتَهْدِ يَا مَحْمُودُ رَبَّكَ وَالْتَمِسْ ... مِنْهُ الْمَعُونَةَ فَهْوَ نِعْمَ الْهَادِي

وَاسْأَلْهُ مَغْفِرَةً لِمَنْ حَلَّ الثَّرَى ... بِالأَمْسِ فَهْوَ مُجِيبُ كُل مُنَادِي

هِيَ مُهْجَةٌ وَدَّعْتُ يَوْمَ زِيَالِهَا ... نَفْسِي وَعِشْتُ بِحَسْرَةٍ وَبِعَادِ

تَاللهِ ما جَفَّتْ دُمُوعي بَعْدَمَا ... ذَهَبَ الرَّدَى بِكِ يَا بْنَةَ الأَمْجَادِ

لا تَحْسَبِينِي مِلْتُ عَنْكِ مَعَ الْهَوَى .... هَيْهَاتَ مَا تَرْكُ الْوَفاءِ بِعَادِي

قَدْ كِدْتُ أَقْضِي حَسْرَةً لَوْ لَمْ أَكُنْ ... مُتَوَقِّعَاً لُقْيَاكِ يَوْمَ مَعَادِي

فَعَلَيْكِ مِنْ قَلْبِي التَّحِيَّةُ كُلَّمَا ... نَاحَتْ مُطَوَّقَةٌ عَلَى الأَعْوَادِ.

 
  أسأل الله أن يديم لكم أزواجكم، ويرزقكم الأمن والأمان والذرية الصالحة، وأن يطيل أعماركم وأعمار زوجاتكم.
  أعتذر عن الإطالة، فأحببت أن أطيل فيه قليلًا _مع أني لم أُوفيه حقه_ لقلة من تكلموا فيه، وأرجو أن ينال إعجابكم. 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

     - في المقالة السابقة (تفاحة آدم) تكلمت عن المرأة ودورها بشكل مفصل.

1-  هذا العنوان هو عنوان قصيدة الشاعر العراقي الجواهري التي قالها في زوجته. وسأذكر القصيدة تاليًا.

2-  محمود سامي البارودي شاعر مصري نفته السلطات البريطانية إلى سرنديب (سيلان) بعد الثورة العرابية، وتوفيت زوجته بعد سنة من نفيه؛ فقال فيها قصيدة سوف أذكرها.

3-  من كتاب (الرباط المقدس) تأليف (توفيق الحكيم) الصفحات (82-83-84-85).

4-  الراوي: عائشة بنت أم المؤمنين – المحدث: ابن الملقن – المصدر: البدر المنير – الصفحة أو الرقم: 117\9 – خلاصة حكم المحدث: إسناده حسن.

5-  الراوي: عائشة أم المؤمنين – المحدث: البيهقي – المصدر: شعب الإيمان – الصفحة أو الرقم: 3022\6 – خلاصة حكم المحدث: إسناده غريب.

6-  الراوي: ثوبان – المحدث: ابن حبان – المصدر: صحيح ابن حبان – الصفحة أو الرقم: 1385 – خلاصة حكم المحدث: أخرجه في صحيحه.

7-  الراوي: عائشة أم المؤمنين – المحدث: الألباني – المصدر: صحيح الترمذي – الصفحة أو الرقم: 2017 – خلاصة حكم المحدث: صحيح.

8-  الراوي: أنس بن مالك – المحدث: الألباني – المصدر: السلسلة الصحيحة – الصفحة أو الرقم: 2818 – خلاصة حكم المحدث: ذكر له شاهدًا عند البخاري.