الاثنين، 27 مايو 2013

رسالة من عالم البرزخ



تمهيدك

بلى أنا مشتاق وعندي لوعة

ولكن مثلي لا يذاع له سر

 

إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى

وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر

 

تكاد تضيء النار بين جوانحي

إذا هي أذكتها الصبابة والفكر.

 

  إن الله قد رزقنا بنسمات جميلة لطيفة، تأتينا ونحن غارقين في الحديث بين الإخوان.

  فتجد الشخص بغيب لحظات، ويغرق في عالم آخر، وإذا سألته: أين كنت؟

يقول: تذكرت فلان!!

كيف؟ ومن الذي ذكره به؟

إنها النسمات الرقيقة التي تأتينا لتذكرنا بأحبابنا الذين فقدانهم......

 

رسالة من عالم البرزخ

  نهضت فزعاً على صوت تقارع الصحون!! ذهبت إلى المطبخ لأرى من الذي يعبث بالصحون؟

  لم أصدق عيني ... نور تتحرك في أرجاء المطبخ، تقلب الصحون، وتسخن الماء، والابتسامة لا تفارق ثغرها، لمحتني لكنها اكتفت بابتسامتها فقط.

  لم أتحدث بل بقيت واقفًا شاردًا، هل ما حدث لنور كان حلمًا _الموت بالمستشفى_، أم هي ميته _نور_ وأنا أحلم بها؟

  مهما كان أتمنى أن يطول الأمر...

  كنت أراقب حركاتها شعرها الجميل الذي يتمايل مع حركتها، عيناها التي ملئة المطبخ نورًا وضياء.

  قالت: اجلس حتى آتيك بالشاي....

  نفذت ما قالت دون أن أفتح فمي... جلست أقلب قنوات التلفاز، ولم أعلم أي قناة سأختار، إنما كانت حركة تلقائة، ففكري غارق في نور، وكيف خرجت لي بعد هذا الغياب الطويل...

  كنت مبتسمًا، انتظر قدومها، جاءت أمامي بقوامها الرشيق، وعطرها الفواح، وانعكاس الضوء على شعرها، كان كخيوط الشمس، يتناثر مع خطواتها، جاءت وثغرها كالؤلؤ .... وضعت الشاي أمامي، وجلست بقربي _كما كنت تجلس سابقًا_ ثم قالت:

نور: وين نور الصغيرة؟

ظللت ساكتًا شاردًا، لا أعرف بماذا أجبيها.....

نور: اشرب الشاي قبل أن يبرد.

أخذت رشفة سريعة وعيني لم تفارقها، وكان يدور في عقلي _ولم أتجرأ للبوح به_ قول الشاعر:

أراك هجرتني هجرًا طويلًا

وما عودتني من قبل ذاكا

قامت بقدميها الملستين، وساقيها الناعمتين، تتبختر برشاقة بين أرجاء الشقة، تتفحص وتدقق النظر، وأنا خلفها، أراقب عيناها، وهي تقلب الأشياء وتتفحصها، حتى جلست من التعب، فجلست بقربها ....

  أشارت إلي أن أضع رأسي على فخذها؛ لأتوسده وأرتاح ...

  وضعت رأسي بكل خفة؛ حتى لا أؤذي فخذها الناعم الرقيق، وقد شعرت بطمئنينة، وسكينة، وهدوء، وراحة، افتقدتها منذ زمن.

  كنت في صراع مع عيني التي يغالبها النعاس، وأنا أحاول جاهدًا، المكوث أطول مدة بقرب نور.

  وضعت كفها المصاغة من الفضة البيضاء، وأنا أراقب وأقول في نفسي:جيدك جيد الظبي، وأنفك صنع من در مذاب مركب، وحاجباك كالنون المصفوفة، وخدك كالورد في الروض، وطرفك السحري، ووجهك كالبدر المنير... سبحان من ركب وأبدع.

  كانت تمسح على خدي بأناملها الرقيقة الناعمة على خدي؛ فغلبني النعاس في النهاية.

  غرقت في نوم، لا أعرف دقائقه، أو ساعاته، كانت نومة جميلة هادئة سعيدة.....

  فتحت عيني.... أين نور؟ لقد اختفت! غضبت غضبًا شديدًا على نفسي _لأني نمت_ وعلى من سلب نور مني _المستشفى_ كدت أحطم الأشياء من حولي.... لكن استوقفني رسالة وجدتها أمامي!

  فتحت الرسالة، كان الخط خط نور!

ووجدت فيها:

  حبيبي... يعز علي أن أراك حزينًا .... لماذا لم تغير شيئًا بالشقة؟ لماذا عطوري في مكانها؟ لماذا أوراقي وقصاصاتي في مكانها؟ لماذا لم تغير مكان مصحفي؟ لماذا شموعي في مكانها؟ لماذا؟ لماذا؟....

  لقد مرت سنة وأنت لم تنساني.... اما آن لك أن تسير في حياتك؟

لست زوجي الذي أعرفه! لست زوجي الذي يوجهني ويعلمني....

  وجهك شاحب! ربما ذهابي أرقك؟ أو ربما العذاب الذي لاقيته بالمستشفى أغضبك؟ أو ربما ابتعادي عن ابنتنا وعدم رأيتي لها أحزنك؟ او ربما تذكرت صراخي وآهاتي وبكائي وضرب رأسي _من شدة الألم_ فأسخطك؟

  ألم تتذكر قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: " ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها "

  ألم تتذكر أن الشهيد يشفع لأهله؟ ألم تتذكر أن المظلوم حقه لا يضيع _ عند الله_؟ ألم تتذكر أن الله قد رزقك ابنة جميلة مكان زوجتك؟ ألم تتذكر أن ليس بينك وبين الله حجاب؟ ألم يسعدك قرب الشديد من الله؟

  لا والله لم تنسى، ولكن الشيطان تمكن منك؛ لغفلة أصابتك....

  حبيبي لا ترهق نفسك بالقضايا، والمحاكم، وأعلم أن الله لا يضيع حق عبده...

  آه... ما أجمل آخر اللحظات _عندما ماتت_ كان خدك على فخذي، نائم كالطفل، كان وجهك بريئًا جميلًا، أيقظك جهاز القلب وهو ينادي أن قد آن أجلي.....

  لا أريد _يا قلبي_ أن يلتهم الحزن شبابك، أريد منك يا قلبي أن تذهب إلى نور _ابنتي_ وتقبلها قلبلتين؛ واحدة عني وثانية عنك أنت...

  لقد رحت عنك يا حبيبي ..... ولم يبقى إلا ذكراي...... فلا تنساني بصالح دعائك...... إلى اللقاء

 

زوجتك: نور

 

  بللت دموعي الرسالة، ووقفت عاجزًا، لا أعرف ما أصنع، أو كيف أخاطبها وأرد عليها.

  فلم أجد إلا أن؛ أقلب الرسالة أكتب في ظهرها:

  آه ثم آه ثم آه......

يراد القلب نسيانكم

وتأتي الطباع على الناقل

أرأيت شحوبي؟ أرأيت حزني؟ أرأيت بكائي؟ أرأيت خوفي؟ أريأيت ضياعي؟

  أصبحت مريضًا من غير مرض، خوار مسلوب القوة، انزعج قلبي إلى الموت وما به جرأة، وإلى الحياة وما به قوة؛ وأصبحت في معاملة الناس كالدينار الزائف لا يقبله أحد، وثابر علي داءُ الحزن، فأضناني، وترك روحي تتقعقع في جلدِها، فهي تهم في لحظة أن تثبَ وتندلق.

  كان كل منا يحيا للآخر، فهذا ما كان يجعل كلاً منا لا يفرغ إلا امتلأ، ولما ذهبتي ذهبت الحقيقة التي كنت أقاتل الأيام عنها، وكنت أنت _وحدك_ تريني الحياة بمعناها، إن جاءتني الحياة فارغة من المعنى، وكنت أفهم الحياة على أنها مجاهدة البقاء؛ أما الآن فالحياة عندي قتل الحياة..!!

مالي أكتم حبًا قد برى جسدي....

لا تطلبي ما ليس ملكي ....

دائمًا ما أتجول في أرجاء الشقة... هنا ضحكت... هنا جلست... هنا ابتسمت... هنا غضبت... هنا شربت... هنا أكلت...

هل تريدين لكل هذا أن يزول !!

  كلما سمعت اسمك خفق قلبي، وتذكرت ضحكاتك، ونسماتك، وأنفاسك، وجمالك...

نعم سرى طيف من أهوى فأرقني

والحب يعترض اللذات بالألم

  ما أصعب عالم الرجال الذي يأمرنا أن نكتم مشاعرنا، ولا نظهرها للناس.

إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى

وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر

  نعم مرت سنة، وقسمات وجهك المضيء لم تفارق عيني... همساتك وضحكاتك في أذني... ثغرك الجميل أمامي.... آه ما أجملك....

  مهما أحببت، تبقى زاية في قلبي؛ لن يصل إليها أحد غيرك...

  أسأل الله أن يجمعنا مع ابنتنا في مكان غير هذه الدنيا...

يا رب فاجمعنا معًا ونبينا

في جنة تثني عيون الحسد

 

في جنة الفردوس واكتبها لنا

يا ذا الجلال وذا العلا والسؤدد

  اللهم آمين...

زوجك المحب: أبا نور!!

ليس هذا اسمي الحقيقي!! هذا الاسم الذي يدعوني به الناس الآن.

  سيبقى اسمي السر الذي بيننا حتى ألقاك لتناديني به....

  يارب كما أخذتها من عيني ... فخذها من قلبي وروحي وعقلي.... أدميت قلبي برحيلك....

  نهضت وذهبت إلى وسادتتها، ووضعت الرسالة تحتها.....











ملاحظة: في الرابط صورة آخر رسالة كتبتها نور قبل وفاتها

http://instagram.com/p/Z0yl9cCeyc/#

الأحد، 19 مايو 2013

لماذا أسميت ابنتي نور



لماذا اسميت ابنتي نور؟

 

  بعد الإنتهاء من شرح الدروس، والإنتهاء من عمل المدرسة الشاق؛ دخلت الشقة؛ لأستريح قليلًا، رميت الغترة بجانبي واستريخت على الأريكة، ومددت رجلي، دون همز أو لمز ....

  والرجل في هذه الحالة يدخل في كهف مظلم، لايرغب بدخول أي شخص معه في كهفه!! فإن تبعه أحد إلى داخل الكهف؛ أحرقته النار...!!!

  كانت نور تتنقل بكل رشاقة وحيوية في أرجاء الشقة، تجمع ما بعثرته بابتسامتها البراقة.....

  بعد أن فرغت، وضعت كوب الشاي أمامي، وجلست بقربي، بعد خروجي من كهفي المظلم، وكانت في شهرها السادس....

نور: اشلون الدوام...؟

محمد: الحمد لله، كالعادة، ماكو جديد...

نور: ها شنو بخاطرك انسمي البنوته....؟

محمد: خبرتج من قبل، اختارين بين ( فاطمة، مريم، سارة ).

نور: لاااا نبي اسم غريب، هالأسامي منتشره...

محمد: طيب، انتي اشرايج...؟

 

  كنت أنظر في عينها، وأنا أسألها، لأرى مدى جديتها في اختيارها.

 

نور: ليش ما انسميها نور .....؟!

 

  احترت في اجابتها، هل هو اختبار منها؟ أما أنها جادة في طلبها، ملامح وجهها لم تتغير، ابتسامتها البراقة هي هي، لم تحرك ساكنًا.

  نعم هي تعي ما تقول، هي جادة في طلبها، ولكن لماذا اختارت هذا الإسم..؟

  احترت بماذا اجيبها...

 

محمد: عندي نور .... ليش اسميها نور..؟!

 

  كانت تنظر إلى عيني وكأنها تتفحصني، كما تفحصتها...

 

نور: خلاص إذا مت سمها نور.....!!

 

  لم تختلف نظرتها، ولا ابتسامتها، هي تعرف ماتتكلم عنه، لم تكن الكلماتها لعب وهزار، بل هو الجد.

  لم أجب على سؤالها، إنما اكتفيت باحتساء الشاي، ومشاهدة التلفاز.

 

  واليوم رحت نور _زوجتي_ وقد تحقق ماقلت، كما قالت.... فسبحان من أجرى هذه الكلمات على لسانها، قبل وفاتها......

 









http://instagram.com/p/ZgPly7Ce5i/#

الأربعاء، 8 مايو 2013

أُبُوّة شاعر


  ( الشعر لسان القلب إذا خاطب القلب، وسفير النفس إذا ناجت النفس، ولا خير في لسان غير مبين، ولا في سفير غير حكيم.

  والشعر بقيةٌ من منطق الإنسان، اختبأت في زاوية من النفس فما زالت بها الحواس حتى وزنتها على ضربات القلب، وأخرجتها بعد ذلك ألحاناً من غير إيقاع، ألا تراها ساعة النظم كيف تتفرع كلها، ثم تتعاون، كأنها تبحث بنور العقل عن شيء غاب عنها في سويداء الفؤاد وظلماته.

  وليس بشاعر من إذا أنشدك لم تحسب أن سمعَهُ مخبوءٌ في فؤادك، وأن عينك تنظر في شغافه، فإذا تغزل أضحكك إن شاء، وأبكاك إن شاء، وإذا وصفَ لك شيئًا هممت بلمسه، حتى إذا جئته لم تجده شيئًا، وإذا نَثَلَ كنانته رأيت من يرميه صريعًا لا أثر فيه لقذيفة ولا مُديةٍ، ولكنها كلمة فتحت عليها عينه، أو ولجَت إلى قلبه من أُذُنِهِ، فاستقرت في نفسه، وكأنما استقر على جمر.

  وجمال القول في براعة الشاعر أن يكون كلامه من قلبه، فإن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان.

  الشعر معنىً لما تشعر به النفس، فهو من خواطر القلب، إذا أفاض عليه الحِس من نوره انعكس على الخيال، فانطبعت فيه معاني الأشياء، كما تنطَبع الصورُ في المرآة، وهو من بعد كالحُلُمِ يخلقُ في المخيلَةِ مما يَصِلُ إلى الأعين، ويتأدى إلى الآذان ما لا يكون قد وصل ولا تأدى. ) انتهى (1)

  كان الشاعر ( عمر بهاء الأمير ) يعيش في المغرب، وكان يلتقي مع أبنائه في لبنان.

وفي القصيدة يصور الشاعر حاله جميع الآباء الذين لا يلتقون مع أبنائهم إلا قليلًا.

  أترككم تستمتعون بالقصيدة التي قال عنها عباس محمود العقاد: ( لو كان للأدب العالمي ديوان من جزء واحد لكانت هذه القصيدة في طليعَتِهِ ).

 

 

 أين الضجيج العذب والشغبُ؟
أين التدارس شابــه اللعبُ؟

أين الطفولة في توقدهـــا؟
أين الدمى في الأرض والكتبُ؟

أين التبــاكي والتضاحك في
وقت معـاً، والحزن والطربُ؟

يتزاحمون على مجالستــي
 والقرب مني حيـثما انقلبـوا

فنشـيدهم: (بابا) إذا فرحـوا
ووعيدهم: (بابا) إذا غضـبوا

وهتـافهم: (بابا) إذا ابـتعدوا
ونَجيّهم: (بابا) إذا اقتربــوا

فـي كـل ركـن منهـمُ أثـر
وبـــكل زاوية لهم صخبُ

في النافـذات زجاجَها حطموا
في الحائط المدهون قد ثقبـوا

في الباب قد كسـروا مزالجه
وعليه قد رسموا وقد كتبـوا

في الصحن فيه بعض ما أكلوا
في علبة الحلوى التي نهبـوا

في الشطر من تفاحـة قضموا
في فضْلة الماء التي سكـبوا

إني أراهـم حــيثما اتجهتْ
عيني كأسـراب القطا سَربوا

ذهبوا، أجـلْ ذهبوا ومسكنهم
في القلب ما شطوا وما قربوا

دمعـي الـذي كتمتـُهُ جَلـَدا
لما تبـاكوا عندمـا ركبـوا

حتـى إذا سـاروا وقد نزعوا
من أضلعي قلبـا بهـم يجبُ

ألفيـتـُني كالطفل عاطفــة
فإذا بـه كــالغيث ينسـكبُ

قد يَعـجـب العذال من رجل
يبكي، ولو لـم أبـكِ فالعجب

هيهـات مـا كـل البكا خوَر
إني وبي عـزمُ الرجـالِ أبُ

 

 

شاهد "الضجيج العذب لزياد الوهيبي" على YouTube - http://www.youtube.com/watch?v=HkYjdm0-r40&feature=youtube_gdata_player

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-  مصطفى صادق الرافعي

الاثنين، 15 أبريل 2013

المعلقات العشر


المعلقات العشر

 

   قصائد جاهليّة بلغ عددها السبع أوالعشر _على قول_ برزت فيها خصائص الشعر الجاهلي بوضوح ، حتّى عدّت أفضل ما بلغنا عن الجاهليّين من آثار أدبية.

   تعليق الصحائف على الكعبة كان سنة بالجاهلية بقي أثرها في الإسلام. فمن ذلك الصحيفة التي علقتها قريش؛ لمقاطعة بني هاشم؛ لحمايتهم الرسول _صلى الله عليه وسلم_. كذلك علق هارون الرشيد العهد بالخلافة لمن بعده إلى ولديه الأمين فالمأمون.

   لذلك علقت المعلقات وقيل المذهبات _لأنها تكتب بماء الذهب_ على أستار الكعبة.

وقيل أنها كانت تعلق على خزائن الملوك.

   وممن أيد كتابتها بماء الذهب وتعليقها على أستار الكعبة ابن عبد ربه الأندلسي، وابن رشيق، وابن خلدون.

   هذا القول المشهور والمتداول بين الناس، وقد قال بعض العلماء بأن المعلقات لم تعلق على أستار الكعبة!

   حيث كان اعتماد العرب على الحفظ، فمالداعي لكتابة هذه القصائد؟

وكما هومعلوم ممن عاصر الرسول _صلى الله عليه وسلم_ كان عدد الذين يكتبون قليل جدًا.

   ولو كانت علقت على الكعبة؛ لوجدنا لها ذكرًا، ولتباهى الشعراء بقصائدهم التي علقت على الكعبة. فقد كان من عادة العرب؛ التباهي، والفخر فلماذا لم يتباهى أحد بالمعلقات؟

 

   واختلفوا كذلك في عدد المعلقات، فمنهم من قال: أنها سبع. وفريق اعتبرها ثمانية. وذهب فريق أنها عشرة.

   وعلى أي حال تمخض مثل هذا النوع من النقد والتفضيل عن اختيار قصائد بعينها لتكون أشهر قصائد شعراء العصر الجاهلي وسميت بالمعلقات. ولعلها كانت أول عملية ( مختارات شعرية ) _في ما هو معروف_ إذ استمر النقاد على هذا المنوال فيما بعد، فجاءت المفضليات، والأصمعيات، وجمهرة أشعار العرب ....

  

   قبل أن أذكر لكم أصحاب المعلقات العشر؛ أحببت أن أردف هنا قول ابن رشيق: ( المشاهير من الشعراء أكثر من أن يحاط بهم عددًا، ومنهم مشاهير قد طارت أسماؤهم، وسار شعرهم وكثر ذكرهم، حتى غلبوا على سائر من كان في زمانهم، ولكل أحد منهم طائفة تفضله وتتعصب له، وقلما تجتمع على واحد، إلا ما روي عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ عن امرئ القيس أنه أشعر الشعراء، وقائدهم إلى النار) انتهى.

 

   جميع من شرح المعلقات، ومن قسم الشعراء، يعتبر امرؤ القيس؛ أشعر العرب _ذكرت قول الرسول_عليه السلام_ قبل قليل_ ودائمًا مايقدم شعره على سائر الشعراء.

 

أصحاب المعلقات

1-             امرؤ القيس

قال أبو عبيدة: أشعر الناس أهل الوبر خاصة، وهم امرؤ القيس وزهير والنابغة.

وسئل الفرزدق من أشعر الناس؟ قال: ذو القروح ( من ألقاب امرئ القيس )

وسئل لبيد من أشعر الناس؟ قال: الملك الضليل ( من ألقاب امرئ القيس ).

 

معلقة امرئ القيس

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل .

 

2-             عمرو بن كلثوم التغلبي

قال الكميت: عمرو بن كلثوم أشعر الناس.

كان عمرو كثيرا ما يفخر بقبيلته _تغلب_  بأشعاره، فأمه ليلى بنت المهلهل.

 

معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي

ألا هبي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرينا.

 

3-             طرفة بن العبد

 

قيل سمع النبي _صلى الله عليه وسلم_ قول طرفة:

ستبدي لك الأيام ماكنت جاهلًا .. ويأتيك بالأخبار من لم تزود.

فقال؛ " هو من كلام النبوة ".

وقال عمرو بن العلاء: طرفة أشعرهم.

 

معلقة طرفة بن العبد

لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد.

 

4-             الحارث بن حلزة اليشكري

أنشد الشاعر معلقته للملك عمرو بن هند؛ رداً على عمرو بن كلثوم. وقيل أنه قد أعدّها وروّاها جماعة من قومه؛ لينشدوها نيابة عنه؛ لأنه كان برص، وكره أن ينشدها من وراء سبعة ستور ثم يغسل أثره بالماء _كما كان يفعل بسائر البرص_ ثم عدل عن رأيه وقام بإنشادها بين يدي الملك وبنفس الشروط السابقة. لما سمعها الملك _وقد وقعت في نفسه موقعاً حسنًا_ أمر برفع الستور، وأدناه منه، وأطمعه في جفنته، ومنع أن يغسل أثره بالماء.

كان الباعث الأساسي لإنشاد المعلقة؛ دفاع الشاعر عن قومه وتفنيد أقوال خصمه عمرو بن كلثوم.

 

معلقة الحارث بن حِلِزة اليشكري

 

آذنتنا ببَينها أسماء ... رب ثاو يُمل من الثواء

 

5-             لببيد بين ربيعة العامري

 

قال عنه النبي  _صلى الله عليه وسلم_ بعد أن سمع

ألا كل شئ ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محال زائل

" أصدق ما قالت العرب "

 

معلقة لبيد العامري

 

عفت الديار محلها فمُقامها ... بمنًى تأبد غولها فرجامها.

 

6-             عنترة بن شداد العبسي

قال الأصمعي: كفاك من الشعراء أربعة: زهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا غضب.

 

معلقة عنترة العبسي

هل غادر الشعراء من متردم؟ ... أم هل عرفت الدار بعد توهم؟

 

7-             زهير بن أبي سلمى المزني

قال ابن أحمر: زهير أشعر الناس.

قال الأصمعي: كفاك من الشعراء أربعة: زهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا غضب.

معلقة زهير

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ... بحومانة الدراج فالمتثلم؟

 

8-             الأعشى

قال الأخطل: الأعشى أشعر الناس

   لقب بالأعشى لأنه كان ضعيف البصر، والأعشى في اللغة هو الذي لا يرى ليلًا.

   ويقولون أن الأعشى هو أول من انتجع بشعره ( يقصدون بذلك أنه كان يمدح لطلب المال ). ولم يكن يمدح قوماً إلا رفعهم، ولم يهج قوماً إلا وضعهم؛ لأنه من أسير الناس شعرًا وأعظمهم فيه حظًا. ألم يزوج بنات المحلق بأبيات قالها فيه؟ _كما جاء في كتب الأدب_.

 

معلقة الأعشى

ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعًا أيها الرجل؟

 

9-             النابغة الذبياني

   النابغة لقب بهذا اللقب لأنه نبغ في الشعر أي أبدع في الشعر دفعة واحده.

   قال عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_ لوفد غطفان حين جاءوه من الذي يقول؟:

 

حلفت فلم أترك لِنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مطلب؟

قالوا: هو نابغة بني ذبيان، قال: هو أشعر شعرائهم.

   كان أبو بكر _رضي الله عنه_ يقدم النابغة ويقول: أحسنهم شعرًا، وأعذبهم بحرًا، وأبعدهم قعرًا.

 

معلقة النابغة الذبياني

 

اختار التبريزي قصيدته التي مطلعها:

يا دار مية بالعلياء فالسند ... أَقوَت وطال عليها سالف الأمد.

أما أبو زيد القرشي اعتبر في كتابه ( جمهرة أشعار العرب )

قصيدة النابغة التي مطلعها:

عوجوا فحيوا لنُعم دمنة الدار ... ماذا تحيون من نؤي وأحجار.

   هذا إن دل فهو يدل على؛ جمال قصائد النابغة الذبيان، في اختلاف العلماء على أي واحدة منهم علقت على أستار الكعبة .

10-      عبيد بن الأبرص

 

   كان المنذر بن ماء السماء، قد نادمه رجلان من بني أسد، فأغضباه في بعض المنطق، فأمر بأن يحفر لكلّ منها حفرة بظهر الحيرة، ثمّ يجعلهما في تابوتين ويدفنا في الحفرتين، ففُعل بهما ذلك، حتى إذا أصبح سأل عنهما فأُخبر بهلاكهما، فندم على ذلك، وجعل لنفسه يومين في السنة، يجلس فيهما عند الغريّين أحدهما يوم السعد، والآخر يوم التعس، فأوّل من يطلع عليه في يوم نعيمه (يوم السعد) يعطيه مائة من الإبل شؤماً _أي سوداً_ وأول من يطلع عليه يوم بؤسه ( يوم التعس ) يعطيه رأس ظَرِبان أسود، ثم يأمر به فيذبح ويغرّى بدمه الغريّان. سئل المنذر لماذا فعلت بهما ما فعلت؟ فقال: ما أنا بملك إن خالف الناس أمري.

   فبينما هو يسير في يوم بؤسه إذ أشرف عليه عبيد، فقال لرجل ممّن كان معه: من هذا الشقيّ فقال له: هذا عبيد بن البرص.
   فأُتي به فقال له الرجل: أبيت اللعن اتركه، فإن عنده من حسن القريض أفضل ممّا تدرك في قتله، مع أنّه من رؤساء قومه وأهل النجدة والشأن فيهم، فاسمع منه وادعه إلى مدحك، فإن سمعت ما يعجبك، كنت قد عفت له المنّة فإن مِدْحَته الصنيعة. فإن لم يعجبك قوله كان هنيئاً عليك قتله، فإذا نزلنا فادع به. قال: فنزل المنذر، فطعِم وشرب، وبينه وبين الناس حجاب يراهم منه ولا يرونه، فدعا بعبيد من وراء الستر فقال له رديفة: ما ترى يا أخا أسد. قال: أرى الحوايا عليها المنايا. قال: فعليك بالخروج له ليقرّبك ذاك من الخلاص. قال: ثكلتك الثّواكل، إنّي لا أعطي باليد، ولا أُحضر البعيد، والموت أحبّ إليّ. قال المنذر: أنشدني من قولك "أقفر من أهله ملحوب". قال عبيد:
أقفر من أهله عبيدُ ... فليس يُبدي ولا يُعيد
قال: أنشدنا أيضاً! فقال:
هي الخمر تكنى بأمّ الطّلاء... كما الذّئبُ يدعى أبا جعدةِ
فقال: قل فيّ مديحاً يسير في العرب، نطلقك ونحسن إليك. قال: أمّا وأنا أسير في يديك فلا. قال: نردّك إلى أهلك ونلتزم رفدك. قال: أمّا على شرط المديح فلا! قال عبيد:
أوَصيِّ بَنِيّ وأعمامهم ... بأنّ المنايا لهُم راصده
لها مدّةٌ، فنفوسُ العِباد ... إليها، وإن جهَدوا، قاصِده
فوالله إنْ عشتُ ما سرّني ... وإن متُّ ما كانت العائده
فقال بعض القوم: أنشِد الملك! قال: لا يرجى لك من ليس معك. قال له المنذر: يا عبيد أي قتلة أحبّ إليك أن أقتلك. قال: أيّها الملك روّني من الخمر وافصدني، وشأنك وشأني. فسقاه الخمر ثم أقْطَعَ له الأكحل فلم يزل الدم يسيل حتى نفد الدم وسالت الخمر، فمات.

 

معلقة عبيد بن الأبرص

أقفر من أهله ملحُوب ... فالقُطبيات فالذنوب.

 

 

الخاتمة

دراسة المعلقات، وفهم معانيها؛ يساعد على فهم القرآن الكريم، ويحببك باللغة العربية، التي تكاد تندثر _للأسف_ ، وقد أوصى عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_ بدراسة المعلقات؛ لما فيها من مفردات، ومعاني، وفصاحة.

   ولكن يبقى القرآن الكريم، والأحاديث النبوية؛ هي المصدر الأساسي للغتنا العربية.

والله أعلم.